جلس و هو في حالة من التفكير العميق على ذلك المقعد الخشبي المتهالك بداخل الحديقة العامة بينما كانت أشعة الشمس الحارقة تلقي بنارها على رأسه و لكنه لم يشعر لأن النار التي تتأجج بداخله كانت أشد وطأة من نار الشمس و حرقتها، فهو لا يعرف ماذا يفعل و لا يعرف كيف يحل هذه المشكلة التي قد تطيح بحياته كلها.
" لماذا عدت اليوم مبكراً على غير العادة .؟؟" هكذا سأل نفسه هذا السؤال و هو يهز رأسه من شدة الضيق، فهوعادة ً يعود من عمله في الرابعة عصراً و اليوم عاد مبكراً عن ميعاده بثلاث ساعات لأنه شعر بالإرهاق ، و ذهب إلى بيته و دخل المنزل و لم تنتبه زوجته إلى أنه قد عاد و ذلك لأنها كانت تتحدث في الهاتف مع والدتها بغرفة بعيدة عن الباب و لم تتوقع عودته في هذا الوقت المبكر و سمعها و هي تحكي عن تفاصيل مشادة الأمس بينه و بينها و التي نشبت بسبب مصروف البيت، حيث كانت تتحدث بالتفصيل و تنقل لوالدتها كل الأخبار، بينما هو يسمع الحوار بغيظ شديد و لولا بقية من عقل تميز به دوماً لحدث ما لا يحمد عقباه.
خرج من المنزل سريعاً دون أن يُحدث صوت، و هو يحترق غضباً و غيظاً فهو يعرف مدى ارتباط زوجته بأهلها و مدى تأثير والدتها بالأخص عليها و كم خلقت هذه المسائل مشاكل عديدة لدرجة أن زوجته تركت البيت كثيراً بسبب هذه المشاكل و في أحيان أخرى كان يرفض وجود أهلها في بيته.
رفع رأسه إلى السماء و ووضع يده ليحمي عينيه من أشعة الشمس و قال " ماذا حدث لقد تغيرت هذه المرأة كثيراً ؟؟ "، فهو يراها في صورة مختلفة عن تلك الفتاة التي أحبها في الجامعة و نشأت بينهما قصة حب كان كل من يعرفها يشهد بطهرها و روعتها، هي زميلته عام بعام و كانت كل الأحلام تنحصر في الزواج ، و بالفعل تم هذا الزواج بعد ثلاثة أعوام من التخرج كان يبحث فيها عن العمل المستقر و توفير متطلبات الزيجة، و بعد الزواج أخذ يعمل و يعمل من أجل أن يوفر لها حياة كريمة.
كانت ظروفه المعيشية صعبة فهو يعمل دائماً و بعد مرور عام و نصف العام من الزواج جاءت طفلته الأولى و أصبح الضغط عليه كبير فظل يعمل و يجتهد و لم ينس أبداً أن المشاكل بدأت منذ هذا الحين عندما كان دائماً ينتقدها بسبب إهمالها لحقوقه و عدم تقديرها لمتاعبه و كانت دائماً ترفض هذه الانتقادات و تؤكد أنه هو الذي تغير و لم يعد يحبها كما كان.
بعد طفلته الأولى بثلاث سنوات جاء طفل آخر و تزايدت الضغوط المالية عليه، و مع هذه الضغوط ضاعت حلقة الوصل بينه و بين زوجته و أصبحت المشاكل لا تُطاق و بدأت الزوجة تترك البيت غاضبة، و عندها بدأ أهلها بالتدخل و زادت رقعة المشاكل بينهم بسبب هذا التدخل .
كرة من المطاط ارتطمت بقدمه و هو جالس على المقعد الخشبي و أخرجته من حالة التفكير العميق و سمع صوت طفل صغير يطلب منه إعادتها فقام بالتقاطها و أعادها إلى الطفل و سرعان ما أمسك الصغير بالكرة و راح يقذفها لوالده و والدته و شقيقه الكبير و وجد الجميع في حالة سعادة كبيرة و لاحظ أن الطفل الكبير معاق ذهنياً و لم يكن من الصعب أن يصل إلى مسامعه أصواتهم حيث سمع الزوج ينادي على زوجته بـ " حبيبتي " طوال الوقت و بعد نصف ساعة توقف الجميع عن اللعب و لكن لم تتوقف الضحكات و اتجهوا إلى دراجة بخارية من النوع البسيط – الفسبا – و قادها الزوج و هو يضع الطفل الكبير أمامه بينما جلست الزوجة إلى الوراء و أجلست الصغير على رجلها و لم ينس الصغير أن يقبض بقوة على كرته المطاطية.
ظل يتتبعهم بنظراته حتى غابوا عن عينه ثم نظر إلى الوراء و رأي سيارته البسيطة و هي قابعة بجوار الحديقة و تساءل في نفسه " منذ متى لم أخرج مع زوجتي في نزهة ؟؟ و حتى و إن خرجنا فهل كانت نفس الضحكات الصافية التي أراها الآن موجودة ..!!! ".
" لماذا لم أنتبه لهذا الأمر " قال هذه الكلمات بصوت مسموع حتى أن رواد الحديقة ممن كانوا بجواره التفتوا إليه، فشعر بحرج شديد و توجه لسيارته و هو يفكر بتلك الأسباب التي جعلت زوجته تفقد الأمان معه و لا تشعر به إلا مع أهلها0
فهي لم تنقل أخبار حياتهما إلا في السنوات الأخيرة وتساءل ماذا كانت تحتاج زوجته، أما هو فقد كان يحتاج إلى أن يرى هذا المشهد بعينيه فربما لو نصحه أحد لما التفت لنصيحته و لكن شاءت الأقدار أن يرى هذا المشهد.
وصل إلى المنزل و أخذ حقيبته و كأنه مازال عائداً من العمل و لم يفتح الباب بالمفتاح و لكنه رن الجرس بشكل أحدث نغمة جميلة و سرعان ما فتحت زوجته الباب و ما أن دخل حتى وجدها مرتبكة و هي تقول :
- عفواً لم أتوقع عودتك مبكراً و لكن الطعام سوف يكون حاضر بعد نصف ساعة.
كانت تتوقع كلمات لوم على إهمالها له و لكنه أمسك يديها و طبع قبلة حانية على كفيها و قال :
- سوف أشارككِ تحضير الطعام.
نظرت إليه بتعجب شديد و لم تستطع أن تقول شيء من هول المفاجأة، أما هو فقد ابتسم و قال بهدوء :
- هل تعرفين أن طعم البصل على يديكِ أكثر روعة من نكهته بداخل الطعام.
تنبهت إلى أن يديها مليئة بالبصل فمسحتهما في رداءها و لمعت دمعة في عينيها و همت أن تقول شيء و لكنه قال لها و هو يقبلها:
- أحبكِ
ربما أدرك الآن أن زوجته كانت تحتاج فقط إلى كلمة حب حتى تستعيد ثقتها به، صحيح أن كلمة حب واحدة لا تكفي و لكنها البداية لكي يستعيدا سوياً حياتهما.
تمـــــت